صدر ديوان الشاعر الكبير الاستاذ بشير المشرقي “أقمار في ليالي الحنين” خلال شهر ماي 2022 ، في طبعة أنيقة ،عن دار الوطن العربي للنشر والتوزيع بالمنستير ، ويشتمل على194 صفحة من الحجم المتوسط ، تتقاسمها 63 قصيدة خلافا لما جاء بالفهرس الذي أسقط سهوا قصيدة “نشيد” التي وردت بالصفحة 81 من الكتاب .
يحتل هذا الديوان أهمية خاصة في تجربة البشير المشرقي الشعرية ، لأنه آخر إصدار له من جهة ، ولأنه من جهة أخرى يأتي بعد عزوف عن النشر امتد عقدين كاملين ، وهو عزوف اختياري ، قد يكون التفرغ لمسؤولياته الثقافية على رأس المندوبية الجهوية للثقافة ببنزرت ، وخصوصا بعد بعثه الملتقى الوطني للشعر التونسي الحديث الذي احتل مكانة بارزة وطنيا وعربيا، أحد مبرراته بالنسبة إلى العقد الأول ، في حين قد يكون الشعور بالمرارة لما آل إليه حال البلاد في العشرية السوداء وراء هذا العزوف عن النشر في العقد المنصرم ، وهو عزوف رافقه انسحاب مفاجئ من الساحة الأدبية عامة ، والشعرية خاصة ، رغم تعدد الدعوات التي وجهت إليه ، وهو المعروف بعشقه للشعر ورغبته العارمة في مجالسة الشعراء . لذلك كان ظهوره من جديد بالساحة الأدبية محل ترحيب كبير من الأسرة الثقافية جهويا ووطنيا ومبعث فرح لأصدقائه من خلان الوفاء وفرسان الإبداع .
وكان الشاعر المشرقي قد أصدر قبل هذا البيات الاختياري أو الصوم عن النشر الذي امتد عقدين من الزمن عشرة دواوين شعرية ، وهي : “في البحث عن مقر “الذي صدر في 1978 ،و “نوافير..وتشدو” في 1979 ، و”همسات الى الزمن الهارب” الذي صدر سنة 1981 ، وفاز بجائزة الدولة ، و ” أحبتي. . والليل . . والوطن ” في 1984 ، و” على نقر المطر . . والذكريات ” في 1994 ، و”توقعات الربيع الخامس ” في 1995 ، و”السندباد والقمر الوحيد ” في 1997 و”كتاب الفصول” سنة 2000″ ، و”تحليق خارج حدود الحلم ” . ومجموعة شعرية بالاشتراك بعنوان “الرياح اللواقح ” .
التزام بالأوزان الشعرية:
يلاحظ دارس هذه المجموعة الشعرية أن الشاعر التزم في إحدى وستين قصيدة منها بالأوزان الشعرية ، منها 37 قصيدة عمودية ، و24 قصيدة من الشعر الحر ، وقصيدتان في غير العمودي والحر . وقد جرت هذه القصائد على البحور ، أو تفعيلات البحور التالية :
وأما القصيدتان الواردتان في غير العمودي والحر فهما “أغنيات للسفر الأخير” و”الليل” . وهذا يكشف عن موقف واضح للشاعر ، وهو ضرورة خضوع القصيدة إلى الإيقاع الخارجي ، أو الوزن ، وعدم الاكتفاء بالايقاع الداخلي للقصيدة. وأما بالنسبة إلى القصيدتين الواردتين في غير العمودي والحر ، فإن في مضمونها ما يحمل تفسيرا لذلك ، وخصوصا “اغنيات للسفر الأخير” ، وهو ما سنعود إليه لاحقا .
شاعر الحنين:
وأما في ما يتعلق بمضامين القصائد ، فإن الفكرة الغالبة عليها هي فكرة الحنين ، وهي التي نجدها في عنوان المجموعة الشعرية ، وفي عناوين عدد من القصائد ( 6 قصائد ) ، إضافة إلى عناوين اخرى قريبة من هذا المعنى مثل اشواق ، أشواق عائدة ، ذكريات ، شدو الغريب ، شكوى الغريب ، رجع الصدى ، سنفونية الأشواق..
وهذا الحنين الذي تضج به ذات الشاعر ، يكشف عن فيض من الإحساس نحو أفراد أسرته الذين غادروا العش تباعا كنا تقتضيه سنن الحياة ، ونحو فصول العمر الربيعية والصيفية بعدما داهمها الخريف ، وبات الشتاء على الأبواب. حنين الى زمن الشباب الذي يتجدد باللقاءات الأسرية ، وبالأحفاد
مثل ما جاء في الومضتين: “إغفاءة” و”ذكرى” ، وفي قصيدة “رسائلنا” ، وفي القصيدة المهداة إلى حفيدته لينا ، وهي بنفس العنوان
فأنت بستان ورد كله ألق
وأنت رعشة عطر هزت الجسدا
وأنت وحدك ، لينا، صرت بوصلتي
في مهمه الليل لم ألمح به أحدا
وفي خطابه الموجه إلى زوجته
تصوريني بلا عينيك سيدتي
أموت وجدا وتذكارا وأشواقا
شاعر الوفاء:
والمشرقي شاعر الوفاء بلا منازع ، وفي لهذا الوطن الغالي ، ففي قصيدة “تونس والصباح” يعلن الحب للوطن ، الوطن هو الجنة ، هو الصباح ، هو الشعر :
فلقد تعبت وأنت تونس جنتي
ولأنت.. أنت الشعر. أنت صباحي
وفي قصيدة “بنزرت” يكشف الشاعر عن تلك العلاقة الممتدة في الزمان والمكان التي تربطه بموطنه ، ينام ويصحو على مرآه، مستحضرا أدق التفاصيل:
أين منك القنال يغفو اشتياقا
أين منك الكرنيش والبطاح
يشهد الله أنني لست ألقى
غير عينيك، إن أطل الصباح
وهو وفي لأصدقائه ، ومن أمثلة ذلك قصيدة “مسافة عمر من العشق” ، وهي مهداة الى روح الاديب البشير التلمودي صديق الشاعر ، وزميله ، ومؤسس نادي جماعة فوق السور للأدباء الشبان ، الذي وإن غاب جسدا ، تظل صورته عالقة بمخيلة الشاعر
سوف أرثيك..
ارثي لوجهك
يا صاحبي
طالعا
في جميع الدروب!
وهو وفي للشعراء الحقيقيين، فهو يهدي قصيدة ” لماذا ترحل الأشذاء بعيدا؟” الى روح نزار قباني ، و يكشف عن فاجعة الإنسان عامة والشاعر خاصة أمام مأساة الموت :
نموت ألف ممات كل ثانية
ويقتل النعي فينا كل مسعانا
ويبقى الحب ، ونزار “شاعر الحب” كما لقبه البشير المشرقي هو الترياق وهو الملاذ والقبلة:
ورغم ذاك يظل الحب قبلتنا
ما اروع الحب يغفو في زوايانا
تدفقي يا عيون الشعر وانسكبي
تدفقي لنرى الألوان ألوانا…!!
وفي قصيدة “وطن وشاعر”التي يهديها إلى الشابي بمناسبة الاحتفال بمائويته ، يحيلنا الشاعر البشير المشرقي إلى بعض قصائد أبي القاسم الشابي مثل “النبي المجهول” و”الصباح الجديد” ليبشره بزوال النحس والبؤس :
قم
فذي تونس
كما شئت دوما
قبس الفن
ساطعا دون لبس
قد أطل
الصباح فيها
جديدا
ينشر النور
بين شدو
وهمس
يا لها
لوحة من الفن
راقت كل عينه
تجول في
كون حس.
قصيدة الديوان أو الذات الكونية:
وإذا كان لكل قصيدة بيت تشتهر به يسمى بيت القصيد ، فإن القول بأن بعض الدواوين تشتهر بقصائد تحتل مكانة خاصة لدى القارئ ، ويمكن اعتبارها قصيدة الديوان ، قد لا يجانب الصواب. وفي هذا الإطار يمكن يمكن القول بأن قصيدة “أغنيات للسفر الطويل” هي قصيدة ديوان ” أقمار في ليالي الحنين” ،فهذه القصيدة تختزل جانبا مهما من ثقافة الشاعر ، وقراءاته ومصادر المعرفة التي غذت كيانه وحددت أفكاره وميولاته : غربة التوحيدي ، أزمنة المتنبي المبكية ، ذكريات ابن زيدون ، قلب نزار، اراغون وعيون الزا ، فاليري والمقبرة البحرية ..
يقول :
يتصدى التوحيدي
للغربه
يبكي المتنبي
أزمنة
ضاعت في الأوهام
يتوغل ابن زيدون
في الذكرى
يتيه البياتي
في صحراء الفكرة
تعرش ليلكة
في قلب نزار
اراغون
وعيون الزا
بول فاليري
ومقبرة بحرية
مسافرة في السراب
جسر ميرابو
وألوان الربيع الضائع
رامبو ، بودلير
لامارتين
و الأحباب الراحلون
وجحافل الذكرى ..
وفي الحقيقة فإن هذه القصيدة لوحدها جديرة بقراءة تحليلية خاصة في مختلف أبعادها الدلالية والشكلية والأسلوبية ، ففضلا عن كونها تكشف عن علاقة الشاعر بالتيار الرومنطيقي وشعرائه الذين تأثر بهم
وترجم لبعضهم بعض القصائد كقصيدة البحيرة لالفونس لامارتين والمقبرة البحرية لبول فاليري وعيون الزا لاراغون ، وليلة ماي لألفري دي ميسي ، فإنها تكشف عن ذات الشارع الكونية التي استلهمت تلك المشاعر الإنسانية ، و تشبعت بالقيم الكونية الخالدة . وليس من باب الصدفة أن تتحرر هذه القصيدة من البحور الشعرية والوزن والقافية ، لأنها قصيدة كونية انفتحت على التجربة الإنسانية الحقيقية شرقا و غربا.
على سبيل الخاتمة:
إجمالا يمكن القول إن ديوان “أقمار في ليالي الحنين ، الذي يأتي بعد عشرة دواوين سابقة ، هو سلاف التجربة الشعرية لدى البشير المشرقي ، وخلاصة رحلته الإبداعية التي استمرت عقودا ، وتعد بالامتداد والتواصل من خلال ما تكشف عنه بعض قصائد هذا الديوان . وتبقى شاعرية المشرقي في هذا الديوان وفي كامل أعماله الشعرية جديرة بدراسة دقيقة ومفصلة ؛ لأنها تكشف عن إبداع حقيقي تميز به الشاعر في توظيف الخيال ، ونسج الصور الشعرية ، وتطويع اللغة وقدرة على الخلق والابتكار.